لم أر قط في حياتي بخيلاً إلا واستعذت بالله من البخل وشروره، ولم تقع عيناي على بخيل إلا ورأيته رث الثياب، كئيب النفس، حزيناً مهموماً إلى الحد الأقصى من الغم والهم والنكد وضيق الخلق، ونوادر البخلاء كثيرة وكثيرة، يتناولها الناس أحاديث في مجالسهم بين الحين والحين، والبخيل عافانا الله وعافاكم من بخله ينتابه الفزع والقلق النفسي؛ فيجعله يتوهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وأبشع أنواع البخل هو بخل الغني الذي يملك من المال الشيء الكثير إلا أن أحاسيسه توهمه بأن أي مبلغ سيدفعه كصدقة أو زكاة أو هبة لوجه الله ستجعله على بساط الفقر، ولقد رأيت طوال السنوات الماضية من البخلاء العجب العجاب، رأيت "الغني" البخيل الذي يجوب الشوارع بحثاً عن مفلس يجرده من ساعته، يشتريها منه بأبخس الأثمان، ويجلس على مقربة من أحد الفنادق حتى إذا ما خرج شخص أنفق ما عنده داخل إحدى الحانات، ولم يستطع دفع ما عليه وُجد صاحبنا واقفاً بالمرصاد ينتظره، فيجرده ساعته الثمينة، ويدفع له ببعض الدراهم تفكه من ورطته، وينطلق صاحبنا البخيل بالغنيمة إلى داره، وفي صباح اليوم التالي يخرج باحثاً عن مشتر لتلك الساعة الغالية الثمن، ولكن ما أن يلمح بصره إنساناً ميسور الحال حتى يخفي الساعة التي كان يعرضها للبيع داخل جيبه، ويمد يده لذلك الرجل قائلاً: "لله يا محسنين" ورأيت من البخلاء من يقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يستطيع أن يمد يده لكي يخرج دراهم أودعها في البنك، ويتردد – أثناء الأيام والليالي الطوال – في قرارة نفسه، أيقدم على سحب ذلك المبلغ المطلوب، أم ينتظر إلى بعد حين؟ وقد أخبرني أحدهم أن أفضل طريقة لعدم الصرف هي أن تذهب إلى السوق دون أن تحمل فلساً حتى لا تضطر إلى الشراء، ولقد جمعتني الأيام بأحد البخلاء الذين يملكون مالاً كثيراً، ولكنه كان يعيش عيشة البؤساء.
ولقد ذهلت يوماً حينما اكتشفت أنه يخفي نقوده في مكان لا يخطر على ذهن إبليس، فإذا ما تعرض في الطريق إلى مداهمة من بعض اللصوص يستحيل عليهم إطلاقاً معرفة مكان النقود، أو العثور على ما معه.. هكذا كان يتوهم ما قد يحدث لهم، وقديماً يقول شاعر إماراتي هذا المثل الذي أصبح مضرباً للبخلاء على ما يحدث لهم، خاصة إذا كانوا يملكون ملايين الدراهم، ولكنهم يشعرون وكأن شيئاً لم يكن معهم، فهو يقول:
يا ويل من ذاق الغنى عقب حاجة
يموت وفي نفسه من الفقر حسرة
نعم.. شبح الفقر دائماً وأبداً يلوح لأولئك القوم في كل طريق وفي كل اتجاه، ومن عجائب البخلاء أن أحدهم كان إذا أراد أن يجري مكالمة هاتفية إلى والده أو والدته أو أحد من أفراد أسرته أو أصدقائه، وقبل أن يذهب إلى الهاتف العمومي الموجود على قارعة الطريق بالقرب من منزله، يكتب المحادثة الهاتفية على ورقة، ويحدد الكلمات التي سيقولها قبل أن يتكلم، وأحياناً ما أن يصل إلى الهاتف حتى يقرر تأجيل المكالمة إلى اليوم التالي، وفي اليوم التالي تأتيه مكالمة من أحد أصدقائه ويخبره فيها أن والدته ووالده بخير، فيحمد الله على أنه لم يدفع من أجل ذلك فلساً واحداً.
هكذا هم البخلاء دائماً وأبداً ينظرون إلى الحياة نظرة ضيقة وينظرون إلى الآخرة نظرة أضيق تتنازعهم مخاوف الفقر. والبخيل بعيد عن الناس بعيد عن الله قريب من النار، ومن الغريب أن البعض يتباهى بالبخل ويعتبره من المزايا الحميدة، ومن الصفات الحسنة والخصال الطيبة، ذلك لكونه يرى في الكرم إسرافاً، والبذل تبذيراً، وفي العطاء هدراً للمال.
وبالأمس كنت شاهداً على موقف لكريم، أشهد الله أنه كان واحداً من المواقف التي أبهرتني كثيراً، وتمنيت لو تحدث مثل تلك المواقف الفاضلة باستمرار في المجتمع ليشعر الناس بما للكرم من محاسن جليلة وخيّرة، وليذكروا ما للبخل من مساوئ لا تعد ولا تحصى، فتباً للبخلاء.. تباً للبخلاء.