بالأمس أقبل علينا شهر الهدى والغفران بأيامه البيضاء، وبلياليه العطرة التي تتضوع بهجة وفرحة وسروراً. جاء رمضان مقبلاً بخيراته ومسراته وذكرياته العزيزة على النفوس، أقدم رمضان فخرجنا بالترحاب نستقبله، وقلنا: أهلاً يا شهر الصيام، ومرحباً بالشهر الفضيل، أتيت والقلوب كلها شوق إليك، تحل ضيفاً عزيزاً كريماً في ديار الإسلام مرة كل عام، تجدد فيها التواصل، وتعيد فيها التراحم، جئت بالخير واليمن والبركات تطوف الأرض المسلمة معلناً عن فتح باب التوبة والغفران على مصراعيه لمن يريد أن يتوجه بقلبه ومشاعره لله الواحد القهار.
تأتي أيها الشهر الفضيل مرة كل عام لتجدد روابط الصداقة والألفة والمحبة بين الناس، ولتعالج الخلل الذي ترسب درنه في النفوس جراء التباغض أو التناحر أو التنافس المادي الذي سيطر على إنسان هذا العصر، وللأسف الشديد، فتصلح أيها الشهر الكريم ما أفسده الدهر من تواد وتراحم بين الأهل والأقارب والأصدقاء وأبناء الديرة، بل وأهل الحي الواحد. ففي بقية الشهور ينصرف الناس جرياً أو بالأحرى انشغالاً وراء مآربهم ومقاصدهم الدنيوية، ويتناسون في خضم التزاحم ما لصلة التراحم من فضائل وفوائد ومحاسن لا تعد ولا تحصى، أتيت أيها الشهر الطيب، وجاء الناس مع لياليك الخيرة يهنئ بعضهم بعضا، ويبارك بعضهم بعضا بمناسبة قدومك، فأنت المؤلف بين القلوب حقاً؛ تجمع ولا تفرق، فخلال أيامك التقى الجميع بعضهم مع البعض الآخر، أناس مضى عليهم عام كامل لم نر لهم وجوداً هنا أو هناك، وجاءوا يدفعهم رمضان، ويذكرهم بأن لهم معارف وأصدقاء وجبت زيارتهم في هذا الشهر الكريم.
فيك يا رمضان نلتقي، وفيك يا رمضان نجتمع، وياسعد من اجتمع فيك على خير، وتفرق على خير، ويا كرم من قال فيك إذا تعرض لجهالة جاهل: اللهم إني صائم.. اللهم إني صائم، فيك يا رمضان معان عميقة إذا ما حاول الإنسان جاداً أن يسبر غورها؛ فإنه سيجد اللآلئ والدرر الثمينة تضيء من حولها بنور يشرح القلب سناه، ما أروع يا رمضان أن يقف العبد فيك أمام ربه يدعو قائلاً: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وما أجمل يا رمضان أن يقول فيك الصائم: اللهم إني صمت، وعلى رزقك أفطرت، صيام لله وحده، صيام لطاعة المعبود، صيام عن الأكل والشرب والشهوة والرفث والفسوق، وكل ما يعكر صفو النفس التقية التي تخشى الله سبحانه وتعالى.
أيامك يا رمضان تجري سراعا، ونحن أحوج ما نكون إليك، تذهب عنا وقد هذبت فينا الإرادة أحسن تهذيب، وترحل عنا بعد أن أشعرتنا بضرورة التواد والتراحم فيما بيننا، وتغادرنا أيها الشهر الخيّر بعد أن ذكرتنا بالفقراء والمساكين وأبناء السبيل ها أنت يا رمضان تمضي ولم يبق من شهرك الفضيل إلا أيام قلائل.
ولكن ما تركته لياليك في النفوس من مشاعر روحانية تمثل زاداً من التقوى يجعلنا نعيش في رحاب بركاتك إلى أن يعيدك الله علينا في العام القادم بالخير واليمن والسرور. رمضان شهر فيه تصفو الخواطر، وتهدأ النفوس، وتقر الأعين، رمضان يا شهر الصيام عظمك المولى، وقدرك خير تقدير، أنزل فيك القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية الصالح لكل زمان ومكان، وجعل الله فيك ليلة فضيلة هي "ليلة القدر" وهي خير من ألف شهر من نالها فقد حظي بمحبة الله له في الدنيا والآخرة، ونال تكريماً رفيعاً من صاحب الجود والكرم، فنهارك يا رمضان كريم، وليلك كريم، وأنت شهر الكرم، والكريم قريب من الناس؛ قريب من الله؛ بعيد من النار، والبخيل بعيد من الناس؛ بعيد من الله؛ قريب من النار. اللهم جنبنا شح النفس "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" (صدق الله العظيم)