صديقي "أبو محمد" الذي رافقني في رحلتي إلى "ظفار" عام 1976م عن طريق البر، والذي تحدثت عن طريقته التي تختلف عن طريقتي في معالجة الأمور في أغلب الأحيان؛ هذا الصديق الذي أعتبره دائماً "الاتجاه المعاكس" هو صديق وقت الضيق؛ فقد عرفت فيه الإنسانية والحس المرهف تجاه الآخرين، واسع المعرفة، يبحث في مختلف الاتجاهات، يختار ما يراه موافقاً لفهمه ومعرفته وقناعته، وإذا لم يجد أذاناً صاغية لما يقول، فإنه لا يخرج عن الأصول، ولا يضرب بعرض الحائط ما يخالف وجهة نظره، بل يسعى جاهداً أن يجعل من فكرة زميله فكرة ناجحة؛ نعم إنه يعارض في بداية الأمر، ولكن ليس لغايات المعارضة، إنما لغايات إبداء الرأي.
وصديقي "أبو محمد" طبيب ناجح يحمل في حقيبته جميع الأدوية التي لا آثار جانبية لها. ويعطيها في السفر لمن يشكو من "علة"، وتسمع فيما بعد ذلك الانسان الذي أخذ منه الدواء يردد أسمى آيات الشكر إليه والثناء عليه، وإن كنت أخالفه الرأي فيما يفعل إلا أن كثيرين من الناس الذين سمعوا كلامه قالوا: إن أدويته نابعة من خبرة ودراية بالمعالجة، فهو لا يترك صيدلية، ولا مكاناً لبيع الأعشاب، ولا طبيباً إلا وزاره وتناقش معه، وكوّن عنه شيئاً من المعرفة.
صديقي " أبو محمد" رجل دين يتحدث بأسلوب جيد، ومعرفة يفوق فيها أحياناً خريج الدراسات الإسلامية والدينية، وصديقي "أبو محمد" مصلح من الطراز الفريد؛ ما أن تقع مشكلة إلا وهب لنجدة الآخرين، وحلّ المشكلة القائمة بينهم، وصديقي "أبو محمد" لديه فن "الإقناع" وإن كان في بدايات طرحه يأخذك بعيداً للغاية عن الموضوع، وصديقي "أبو محمد " يتدخل في شؤون لا تعنيه، ولكن تعني الآخرين، ولا يجد حرجاً من إثارتها، فهو يؤمن بأن الناس خلقوا ليحل بعضهم مشاكل بعض.
صديقي "أبو محمد" إذا سافرت معه مرة فأنك تود أن تسافر معه مرة أخرى؛ غرفته في الفندق لا تخلو من المأكولات العجيبة التي يعثر عليها نتيجة لتجواله المستديم في المدن والقرى، وفي المحلات الأمامية، والخلفية، والجانبية، وهو بهذه الطريقة لا بد وأن يعثر على "مطعم " يقدم أكلات لم يسبق لنا ان تناولناها؛ يتحدث باللغة الاسبانية، والإيطالية، والألمانية، والتايلندية، والهندية، والانجليزية، والسواحلية، وجنوب الأفريقية، وفي كل هذه اللغات لديه معرفة تمكنه من اقناع الآخرين بموهبته اللغوية الواسعة..
صديقي "أبو محمد" إذا أردت منه أن يستيقظ باكراً قال لك: حاضر، واستيقظ قبل الفجر! وإن قلت له: الاستيقاظ الساعة الثانية عشرة ظهراً استيقظ معها، وإن قلت له: الليلة لا نوم أبداً حتى صلاة الفجر، ثم ننام بعدها..
وجدته قادراً بالفعل على مقاومة النوم؛ وإذا جربت أن تسافر بمفردك، وحاولت أن ترتاح من "مشاكساته"، وكان ذلك حقاً؛ تمنيت أن يأتيك "أبو محمد" في أي يوم ليستكمل معك باقي أيام سفرك، وإذا سرت معه مشياً على الأقدام، وسرحت في تفكير شغل ذهنك وجدته يسرد لك حديثاً يأخذك بعيداً عن الهموم ، وإذا سافرت معه في سيارة، فإنه يعد العدة، ويجهز الحقائب، ويفاجئك بأشرطة لم يسبق لك أن استمعت إليها – ذوقه راقٍ ، ومطربه المفضل محمد عبدالوهاب، وكذلك فيروز، فريد الأطرش، عبدالحليم، ونجوى كرم – أو يخرج لك شريطاً لمغن جديد، وما إن يجد قرآن، أو موشحات في مدح خاتم الأنبياء والمرسلين؛ فتنفرج أساريره فرحاً وسعادة، فالحرام عنده ما حرم الله، والحلال ما أحله الله؛ لا يترك فرضاً إلا وأداه في وقته، وإذا ضاقت نفسه سمعته يتلو القرآن بُعيد صلاة الفجر. و "أبو محمد" قارئ نهم؛ لا يترك كتاباً إلا ويتبع أثره إلى أن يعثر عليه، ومهما ذكرت لكم، فأنني لن أستطيع أن أحصر صفات هذا الصديق وسماته الحسنة، ويكفي أن "إنسانيته" إنسانية نادرة في هذا الزمن الذي لا هم للناس فيه سوى "المادة".
عزيزي "أبو محمد" لاحظت عليك الانزعاج بعد نشر مقالاتي، فأصبحت رحلاتك منفردة دون توافق معي على مواعيد السفر؛ فهل أعتبر ذلك هروباً مني حتى لا أنشر "مذكرات مسافر" في المستقبل، أم تضايقاً منك عما ذكرته في الأعداد الماضية؟
أخي "أبو محمد" أقول وللأمانة: لم أعرف فيك إلا نعم الرجل المسلم، ونعم الصاحب في السفر.. فبارك الله فيك. ولا تذهب بمفردك، فإننا نخاف عليك!!