يقولون إن الاعتراف سيد الأدلة.. عبارة في منتهى الجمال والروعة والاقناع، لقد تعارف الناس على سيادة الاعتراف على باقي الأدلة والبيانات، وأصبح رجال القانون أكثر الناس استعمالا لهذه العبارة القانونية باعتبارهم هم أرباب هذه المهنة و "أهل مكة أدرى بشعابها". كما يقول المثل، وطالما أن الحال هكذا، وأن الاعتراف بشهادة الناس جميعا له أنه سيد الأدلة جمعاء، فانه ولاشك قد تربع بكل الفخر والاعتزاز على عروش ساحات القضاء، واحتل المكانة المرموقة والمحترمة بين رجال القانون، وأصبح مكرما بينهم تكريما خاصا، ومما لاشك فيه أيضا أن الاعتراف استطاع حقا ولفترة طويلة من الزمن ولايزال أن يسحر ألباب رجال العدالة بكافة مستوياتهم، لما يتميز به من الصراحة والوضوح وكشفه للحقائق رغم مرارتها.
وأمام هذه الصراحة وإزاء هذا الموقف الواضح الذي لا غبار عليه ولا لبس ولا غموض فيه، فان معظمنا لا يجد مبررا للدخول في متاهات ربما لا حصر ولا عدد لها، ويكتفي بالانحناء إجلالا وتقديرا لهذا السيد الذي فرض نفسه بكل صدق وأمانة أمام الجميع، ويجلسه على كرسي السيادة القانونية، ويباهي به الآخرين قائلا: حضرات القضاة ان لدي مبدأ ما بعده سيد.. وبينة ما بعدها بينة، ودليلا لا يعلو عليه دليل.. لدي الاعتراف، ويسود القاعة نوع من الذهول ويخيم السكون والوجوم على قاعة المحكمة، وتشخص الأبصار والعيون تجاه سيد المواقف كلها، وتتهيأ الآذان لالتقاط عبارات الحق والعدل الصادرة عنه، فيصول الاعتراف ويجول والناس من حوله يهزون رؤوسهم اعجابا وتقديرا لهذه الصراحة التي ان دلت على شيء في الواقع، فإنما تدل على سمو الضمير الإنساني في تلك اللحظة من اللحظات التي فاق فيها عقب نومه وغفوته، صحا من سباته ليقر على نفسه اقرارا تعجز الجبال عن حمله، فيرى رجال الحق والعدالة ان هذا الموقف انما يؤكد تأكيدا قاطعا على ان المتهم قد اعترف فعلا بتلك الأفعال التي قر بها، ويعترف طوعا واختيارا.
ان الزمن يتطور، والوسائل في كافة المجالات يدخل عليها من التعديل والتبديل بما يتناسب مع الواقع الشيء الكثير، وهكذا الحال بالنسبة للقوانين والأنظمة والتشريعات، تصاغ اليوم لتناسب اليوم، وتعمل في الغد لتتماشى مع الواقع الجديد، ويدخل عليها من التطور ما يجعلها ملائمة ومناسبة لظروف المجتمع وأحوال العصر وأهله، ولهذا نلحظ بين الفينة والفينة بزوغ مبادئ قانونية تنير طريق العدالة ودروبها.
لنعد إلى الاعتراف ... إلى سيد الأدلة.. لماذا يا ترى يظل الذي نسميه "الاعتراف" قابعا على عقولنا ومسيطرا على أذهاننا، ومقنعنا حتى في هذا العصر الذي أصبح فيه العلم هو السيد الذي لا يبارى.
عجبا لبعض الناس الذين لا يزالون ينظرون إلى الاعتراف وكأنه بالفعل لم يزل سيد البيانات بدون منازع، ما أكثرهم اليوم وهم يتلاقفون هذه العبارة وكأنها هي السلاح الوحيد الذي لا يمكن أن يواجهوا الخصوم بدونه.
نعم: نحن لا نلوم من كان في الماضي يظن ان الاعتراف سيد الأدلة كلها، ففي الماضي لم يكن لدى الانسان من الوسائل العلمية الحديثة ما يمكنه من الوصول إلى الحقائق كما ينبغي، ولم يكن لديه من الأدلة العلمية ما يكفي لإبرازه في ساحة القضاء من أجل زحزحة الاعتراف من كرسي السيادة القانونية.
ولكن.. ألا ينبغي ان نستعرض الاعتراف، وأن نتعرف عليه طالما اننا نحن بصدد الحديث عنه، فما هو الاعتراف يا ترى؟
أليس هو إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الوقائع المكونة للجريمة كلها أو بعضها؟
ثم ماذا بعد ذلك.. أليس من الممكن أن يعترف شخص ما بكل أو ببعض الوقائع المكونة للجريمة، فينسبها لنفسه لسبب أو لآخر في حين أنه لم يقترف أي جرم على الاطلاق.. فاذا كان ذلك ممكنا ومحتملاً، فكيف اذن يصح لنا أن نسمي مثل هذا الاعتراف سيد الأدلة؟
لقد ظل الاعتراف في نظام الأدلة القانونية حتى ظهور الثورة الفرنسية سيدا، لا يعلو عليه أحد، ودليلا مقيدا للقاضي وملزما له، وحادا من حريته في إصدار الأحكام، ولكن الدول المتقدمة تحررت من هذه الشكليات، وأعطت للعدالة ساحة أوسع وأشمل من مجرد الاعتراف الذي يكون في بعض الأحيان لا أساس له من الصحة، إلا أن بعض الدول لا تزال تعتبره سيد الأدلة بالرغم من التطور العلمي الهائل والمثير الذي حدث في هذا العصر، ولكل وجهة نظره، وفي اعتقادي ان من يظنون بأن الاعتراف سيد الأدلة سيكتشفون يوما ما انهم على خطأ كبير.