نعمتان مجهولتان، الصحة والأمان، الأمن إذا رحل عن بقعة تركها دماراً يخيم الظلام الدامس عليها، وينعق اليوم في أرجائها، ويبني العنكبوت خيوطه على جدرانها، وتختبئ البراغيث في زواياها، وإذا حل الأمن بدار جعلها عماراً، فالأمن نعمة من نعم الله على عباده به تستقر الحياة وتهدأ وتطمئن النفوس وتنعم بالنوم الجفون.
بالأمن تخضر الأرض وتنبت الأشجار وتتفتح الأوراق والأزهار، بالأمن ينطلق الإنسان نحو التقدم والرقي والبناء والازدهار، وبه تشق الطرق وتقام العمارات وتضاء المساكن والشوارع والحارات، بالأمن تغرد البلابل، وتشدو العصافير، وتحوم الفراشات حول الورود والأغصان والشجيرات، بالأمن يسير الأطفال إلى مدارسهم، والعمال إلى مصانعهم، وأرباب العمل إلى متاجرهم ومصالحهم، بالأمن تتشكل الدنيا بألف لون ولون بهيج، وبه تسود المحبة والألفة بين الناس، ويعم الخير والرخاء، ويعرف طعم السعادة، لكن بني البشر ينسون هذه النعمة الجليلة وهم في خضم البحث عن دنيا الماديات. اللهم إلا نفر قليل ممن لهم نظر ثاقب ورأي صائب، وخبرة في الحياة، و دراية بها، وتلك موهبة من الله جلت قدرته.
كنت ضابطاً أعمل بالشؤون الإدارية، وتقدمت إلى القيادة باقتراح مفاده ضرورة إنشاء مجلة لشرطة دبي، ورفع اقتراحي إلى قائد شرطة دبي آنذاك السيد جاك بريجز، ولاقى الاقتراح القبول والاستحسان والموافقة من القيادة، والدعم والمساندة من كبار الضباط، وأحمد الله سبحانه وتعالى أنني كلفت بشرف تولي هذه المسؤولية.. مسؤولية الإشراف على المجلة.
وما حمدي وشكري ذاك إلا لأنني أؤمن بأن صاحب أي فكرة حينما يكلف هو بإنجازها وإتمامها وإبرازها إلى حيز الوجود يرى في ذلك متعة أيما متعة، وإشباعا لرغباته وطموحاته وآماله التي خطرت في لحظة من لحظات الإلهام على خاطره، وتشكلت وتبلورت لتصبح هدفاً واضح الملامح أمام ناظريه، ولو أن هذا المشروع أسند إلى ضابط آخر في حينه لا أدري في الواقع إلى أي درجة سيكون ذلك الضابط متحمساً لتلك الفكرة.
وأعترف أن البداية كانت بسيطة ومتواضعة للغاية إلا أنني حينما أعود بالذاكرة الآن إلى البدايات الأولى، أعجب كيف أن ذلك العمل البسيط كان بالنسبة لي آنذاك إنجازاً كبيراً ، بالرغم من إنني الآن أقر بان عملي ذاك كان بسيطاً جداً جداً إلا أنني والحق يقال أشعر في الوقت نفسه بلذة ذلك الإنجاز، المهم في الأمر أنه كان علي أن أقدم عدة اقتراحات تتعلق بالمولودة المنتظرة، اخترت عدة أسماء لها حتى إذا حان ميلادها كان بمقدورنا أن نسميها (....)، وأذكر الان أن من بين الأسماء المقترحة، الشرطة والأمن العام ... الشرطة ... الشرطي.. الأمن .. واسمين أو ثلاثة لا أذكرها بعد مضي خمسة عشر عاماً على صدور مجلتنا الحبيبة.
وقد أعلمني قائد الشرطة أن الأسماء التي سأقدمها سوف تعرض على سمو الشيخ محمد بن راشد وزير الدفاع رئيس الشرطة والأمن العام بدبي ليختار الأسم الذي يفضله سموه، وذات يوم استدعاني قائد الشرطة ليقول لي: كن مستعداً في الغد سنذهب لمقابلة سمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم في مكتبه بوزارة الدفاع، لعرض الأمر عليه، في اليوم التالي كنا سويا مع قائد الشرطة في مكتب سموه واستعرض الأسماء كلها، وكنت أتوقع أن يختار سمو الشيخ محمد لمجلة الشرطة مسمى " مجلة الشرطة والأمن العام، أو مجلة الشرطة، أو مجلة الشرطي".
لقد توقع أغلبنا أن يكون اختيار سموه بين هذه المسميات دون غيرها، ولكنه كعادته فكر قليلاً وكأن شيئا خطر في ذهنه، ولم أكن في ذلك الوقت مدركاً لبعد نظر سموه، لقد تذكر شيئا لم يخطر على بالي في ذلك الوقت، ربما لصغر سني وقلة خبرتي، وإذا بسمو الشيخ محمد يختار اسم " الأمن " واليوم حينما استعرض خواطر الماضي البعيد أرى بوضوح كيف ان سموه اختار مسمى " الأمن " دون غيره من الأسماء .. اليس الأمن ازدهاراً وتقدماً .. اليس الأمن محبة والفة بين الناس .. اليس الأمن نعمة من نعم الله .. غابت عن بالنا حينما كنا ضباطاً صغاراً، ولكنها كانت راسخة في بال وذهن وزيرنا ورئيس شرطتنا، واليوم تطفئ " الأمن " شمعة عامها الخامس عشر وهي تصدر من أرض الأمن والاستقرار في ظل قيادة مسيرة الخير والرجاء برئاسة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة، وأخيه صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد المكتوم نائب رئيس الدولة حاكم دبي، وأخوانهما أصحاب السمو حكام الإمارات.
عزيزتي مجلة " الأمن " .. الأمن نعمة .. ذلك هو الدرس الأول الذي تعلمناه.. هذا وبالله التوفيق.