كنت ضابطاً تلميذاً في قاعات الدراسة، وكان أساتذة القانون يلقون على مسامعنا قواعد قانونية نهتز لها طربا كلما لامست عباراتهم آذاننا الصاغية، كيف لا ونحن فتية في مقتبل العمر متفتحة عقولنا لاستقبال كل ما من شأنه أن ينير لنا مسيرة الدرب الطويل. وكان الأساتذة بكل ما أوتوا من مقدرة كلامية يحاولون جاهدين أن يرسخوا في أذهاننا تلك القواعد التي تمكن رجل القانون من أن يشهرها في وجه الخصم كلما دعت الضرورة إلى ذلك. فإذا شاءت الأقدار ومثل مدافعا عن متهم أو مدعيا ضد آخر: كان بمقدوره أن يقول: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ليفرج عن موكله بأسرع ما يمكن أو أن يقول حضرات المستشارين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وان موكلي بريء من التهمة الموجهة إليه براءة الذئب من دم يوسف ...الخ.
قواعد قانونية جميلة .. ما بني على باطل فهو باطل .. المتهم بريء حتى تثبت إدانته .. لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص .. الشك يفسر لصالح المتهم .. الخ.
وتمضي السنون ونحن في دوامة العمل الشرطي نقبض، ونحقق .. نلاحق ، ونفتش .. ونستدعي للإدلاء بشهادتنا أمام المحكمة ونعود من جديد إلى ساحة العمل اليومي المليئة بالأحداث المختلفة وهكذا، وذات يوم وأنا أرقد على سرير أبى النوم أن يداعب جفوني البتة، سرح ذهني دون أن أدري إلى ساحة القانون، وإذ بخاطرة تخطر ببالي ألا وهي: إذا كان المتهم بريئا حتى تثبت إدانته، فلماذا كل هذا العناء الذي يعانيه المتهم؟ .. إذا كان المتهم بريئا فلماذا نقبض عليه؟.. إذا كان المتهم بريئا فلماذا نوقفه؟ .. إذا كان المتهم بريئا فلماذا نضع القيد في يديه؟ إذا كان المتهم بريئا فلماذا يمثل أمام المحكمة عشرات المرات ليثبت براءته؟.. إذا كان المتهم بريئا لماذا نفتش بيته؟.. إذا كان المتهم بريئا لماذا نمنعه من السفر؟ إذا كان المتهم بريئا لماذا لا يطلق سراحه إلى الأبد؟ .. وقلت في نفسي: الحقيقة ان المتهم متهم حتى تثبت إدانته أو براءته، فإن ثبتت براءته فهو بريء ، وإن ثبتت إدانته فهو مجرم.
قد يقول قائل ان المقصود أصلا بهذه القاعدة القانونية ان المتهم حينما تسند إليه أي تهمة يجب أن يعامل على أساس أنه بريء، ولهذا يجب أن تكون المعاملة التي تتخذ بحقه تتسم بالعدالة والإنسانية، وأن تكون بعيدة كل البعد عن التعسف، ونحن نقول ان المتهم حتى ولو أدين بالتهمة المسندة إليه، فإن التعامل معه يجب أن يتسم بالعدالة والإنسانية، وأن يكون بعيداً عن كل ما من شأنه أن يهدر حقه في الحفاظ على كرامته كإنسان.
إخواني رجال القانون: ألا ترون أن المتهم متهم حتى تثبت براءته أو إدانته.. ألا ترون أن المتهم لا يعامل على أساس أنه بريء.. ألا ترون أن المتهم يعامل على أساس أنه متهم فيقبض عليه، وتفتش داره، ويلقى به في التوقيف، ولا يفرج عنه على الإطلاق أحياناً، ويفرج عنه تحت كفالة شخصية أو مالية أحيانا أخرى، ويمنع من السفر ويقف طويلا أمام ساحات القضاء ليؤكد براءته.. لماذا كل هذا إذا كان صاحبنا بريئا .. أنه في الواقع بريء حينما تعلن المحكمة براءته، ومجرم حينما تلتصق التهمة به قضائيا إذا صح التعبير، أما قبل ذلك فالمتهم متهم.
إخواني رجال القانون: سامحونا .. قولوا ما شئتم، فإن كل ما ذكرته مجرد خاطرة وإن كانت تعبر عن شيء فإنما هي تعبر عن رأيي الشخصي فقط.